ورد في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا دخلت العشر الأواخر من رمضان شَدَّ مئزره وأيقظ أهله وأحيى ليله ، ولم يَرِد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يحرص على إيقاظ أهله لصلاة غير مكتوبة إلا في هذا الموسم العظيم .
المواسم في هدي الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الذي أُمرنا كمسلمين باتباعه إنما هي ميادين للاستكثار من الخير عبر العبادات المجردة ( صلاة * صيام * صدقة ) وغير ذلك من أعمال الخير ، لكنها أيضا مواسم لتعزيز مقتضيات تلك العبادات العظيمة عبر الخلُق القويم بكل أشكاله أمانة وصِدْقًا وعِفَّة جوارح ، فتلك المواسم ليست ساحة لعب قمار سنوي مع رب العباد والعياذ بالله من هكذا فكرة .
أكثرنا في هذا الزمان يعيش في برجه العاجي وتغلفه الأنانية حتى يكاد يظن أنه هو الأَولى بالرعاية من دون البشر ، نشاهد هذا السلوك في الشارع والمجمع التجاري ودوائر العمل ومجالس تجمعات الناس وحتى داخل البيوت ، وأكثرنا لا توجد لديه نية للتوبة أو حتى مجرد التفكير فيها لكن أكثرنا أيضا يملأ المساجد رجالا ونساء في الحضور إلى صلاة القيام وتزدحم بهم المساجد أكثر ليلة 27 من رمضان على أساس أنها ليلة القدر وأنه إذا صلينا فيها خلف إمام صوته جميل ويتباكَى في التلاوة والقنوت لنبكي معه دون أن نعرف ما قال فقد عبدنا ربنا ألف شهر بما يبيح لنا التفلت من كل قيمة والتزام طوال حياتنا !
يجب على الجميع أن يعلم أن التهجد أواخر الليل مشروع في رمضان وغيره لكن الشهر الكريم نُدِب فيه القيام أكثر من غيره لعظم الزمان المرتبط بركن عظيم من أركان الدين والمشتمل على ليلة هي خير من ألف شهر ينبغي تحريها ليس من باب تخصيصها بالعبادة فحسب وإنما كي تمثل دافعا للتمسك بمقتضيات العبادة كمنهج حياة ، فلو افترضنا جدلا أن رمضان شهر شمسي لا قمري وأن ليلة القدر ثابتة معلومة فإن إحيائها بالعبادة مع الإصرار طوال العام على أكل السحت وإيذاء الجار وارتكاب كافة المنكرات يعني ببساطة أن قيمة العبادة ستكون صفر من الثواني بدل ألف شهر !
على فكرة : تحري ليلة القدر كما وجهنا لذلك نبينا عليه الصلاة والسلام يجب أن يتم في الوتر من العشر الأواخر ، والرسول نفسه صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي أمرنا بإكمال العدة ثلاثين يوما إذا غُمَّ علينا ولم نستطع رؤية الهلال ، معنى هذا الكلام هو أن دخول رمضان يمكن أن يحدث حتى قبل أن نبدأ صيامه ؛ فإذا كان جو التاسع والعشرين من شعبان غائما فنحن لن نرى الهلال ونحن مأمورون بنص حديث الرسول صلى الله عليه وآله وصلم بإكمال العدة ثلاثين يوما لكننا لا نضمن أن رمضان لم يدخل في تلك الليلة الغائمة ولو دخل فيها لأمكن أن تكون ليلة القدر وفق حساباتنا في 22 أو 24 أو 26 أو 28 بل ربما ليلة 20 أيضا ، لذا فالعبادة يجب أَلَّاْ تُخصص بِلَيلة دون غيرها مثلما أنها يجب أَلَّاْ تنفصل عن منهج حياتنا وأخلاقنا ومعاملاتنا ، فَإِلَّم يتحقق ذلك واستمر وضع السواد الأعظم منا على ما هو عليه فإن صلاة الليل في العشر الأواخر ستتحول من صلاة قيام إلى صلاة قمار ، وشتان بين القيام خشوعا وتذللا بين يدي الله والمقامرة بعبادات شكليَّة موسمية هي من تخاريف الأديان الأخرى وليست من تعالِيم الإسلام .