حينما احتلت القوات العراقية الغازية بلادنا خلال ساعات في مشهد دراماتيكي أجاد الأمريكان التحكم به وكأنهم يقدمون عرض PowerPointصعقت الصدمة أهل الكويت ، لكن بعد قرابة الشهر من تلك الجريمة النكراء بحق أمة كاملة لا الكويت وأهلها فحسب أيقن الكويتيون أن بوصلة المصالح لا الأخلاق الأمريكية اقتضت طرد الغزاة من بلادهم ، فأخذوا رغم آلام الاحتلال القاسية يحلمون بصياغة وضع كويت ما بعد التحرير على أساس تصحيح كل الأخطاء والخطايا ما قبل الغزو ، وجاء ما قيل وقتها أنه مؤتمر شعبي في مدينة جدة ليعطي أحلام الكويتيين زخما أكبر حيث تابعناه ونحن صامدون على تراب أرضنا المحتلة وكأننا مشاركين به ، حتى إساءة مَن أصبح بعد 20 سنة من تلك الأحداث ( سمو رئيس الوزراء ) ووصفه للصامدين من أهل الكويت بأنهم خونة لم نهتم بها آنذاك وإنما كانت كل آمالنا بعد الله معلقة بمرحلة ما بعد التحرير التي ظننا أننا نحن الذين سنصنعها بأيدينا !
خرج الغزاة العراقيون من بلادنا ثم طَبَّلْنا لإعادة الإعمار وأصبحنا نهز الوَسْط للمطرب وهو يغني : " مَن مثلهم مَن مثلهم " ، وصرنا على غير العادة نفخر بالشباب الذي ينظف مواقع عمله في الوزارات والمؤسسات ويصبغ جدران المدارس والكليات ، وحتى الناشئة قمنا بتحفيزهم عبر سنة دراسية غير مسبوقة في تاريخ الكويت أسميناها ( سنة الدمج ) حيث اجتاز فيها الطلاب مرحلتين في سنة واحدة كي نقول للغزاة بأنكم لم تعطلو حتى المسار الدراسي لطلابنا عندما حَرَمْتموهم من مدارسهم أثناء الاحتلال .
بعد إقرار قانون ما سُمِّيَت المديونيات الصعبة عام 1993 فُوْجِئْنا بأن حلمنا إنما كان سرابا ؛ وعندما أُجري التعديل الوزاري على هوى غرفة التجارة عام 1994 تعزز الشعور بالإحباط وتراجع الزخم الوطني الذي تعاقبت بعدها النكسات على تدميره عبر مهزلة التنافس اللا شريف بين جاسم الخرافي وأحمد السعدون ثم محاولة اغتيال عبد الله النيباري وصولا إلى المسرحية الكبرى باستجواب عباس الخضاري لأحمد الكليب والتي أخرجها مبدع يبدو أنه يهوى مشاهدة أفلام الآكْشن !
كل هذا وأكثر تم فقط لأن الدستور الضعيف أصلا فُرِض على الشيوخ مرتين : الأولى بعد الاستقلال والثانية بعد التحرير ، وبلغَت الفوضى مداها حينما حدثت واقعة قتل عمد لطفل غير شرعي يبدو أن أحدهم أنجبه من غانِية مستوردة لم تأخذ حذرها أو أنها وثقت أكثر من اللازم بقدرتها على ابتزاز جليس الأنس ، هذه القضية تم سحب ملفها من النيابة عام 2001 لأول مرة في تاريخ الكويت !
وكان زلزال عام 2006 إيذانا بمرحلة من التخبيص في العملية السياسية على الساحة المحلية التي شهِدَت ولا تزال حالة عدم استقرار في تشكيل الحكومة واختيارات عشوائية للوزراء والوزيرات اللاتي لن تكون غدير أسيري آخِرَهُن ، ولم يكن مَن يسمون نواب الشعب ولا ناخبيهم بمبعدة عن هذا الفساد الخطير وإنما صاروا يقتاتون على موائده كُلٌّ حسب قدراته ووفق مصالحه !
ما جرى اليوم في حقيقته هو إقالة وليس استقالة ، فغدير أسيري كانت مُصِرَّة على المواجهة ومَن وَزَّرَها كان مستعدا للدفاع عنها كما دافع عن غيرها إلا أن صبيانيتها ونزقها أحرج الجميع فأجبر عددا من النواب على إعلان طرح الثقة بها يكفي لإسقاطها في الأسبوع القادم وفي نفس الوقت لم يترك لرئيس الحكومة مجالا كي يدافع عنها ، فوجد طُهاة المطبخ السياسي في الكويت أن الإيعاز لغدير أسيري بالاستقالة هو الأسلم فقامت بصياغة كتاب استقالة جمع بين احترام السلطة التنفيذية ورأسها من ناحية وتهزيء السلطة التشريعية ممثلة في أكثرية توافقت على طرح الثقة بها من ناحية أخرى ، فأتى ذلك كلقطة ختامية لمشهد بصبغة طائفية يمثل بداية لا نهاية لفصل ساخن ربما يزداد سخونة إذا رشَّحت غدير أسيري نفسها للانتخابات القادمة وأوصلتها قاعدة انتخابية على أساس طائفي نكاية بهايف والدمخي اللَّذَين كانا يستعرضان طائفيا أيضا أمام قاعدة انتخابية ساذجة !
لو أن صبيانية أم جبريل لم تدفعها للتسلط على الدكتورة شفيقة العوضي كردة فعل على افتضاح استغلالها لمميزات المكلف برعاية المعاق لكان من الممكن أن تتجاوز غدير أسيري طرح الثقة بها الذي كان مقررا يوم الثلاثاء القادم ، ومع ذلك على رئيس الحكومة أن يعي أن القرارات الصادرة عن وزيرة الشؤون المستقيلة لا تزال سارية المفعول لأنها قرارات تم اتخاذها من الوزيرة بصفتها الاعتبارية لا الشخصية ، والصحيح هو عدم إلغاء هذه القرارات إلا بحكم قضائي في قضية يرفعها المتضرر ، أما إلغاء القرارات بجرة قلم كما تم اتخاذها بجرة قلم فإنه يعزز الفوضى ، فهل تحمل الحكومة حقا هَمَّ وقف الفساد والفوضى ؟